الأحد، يوليو 06، 2008

المِكوِّش والطرطور : أنماط إدارية

إن (المكوش), بكسر الميم, وتشديد الواو بالكسر, هو الذي "يستحوذ" على كل شيء, صغيره وكبيره, ولا يدع لغيره ممن حوله فرصة أو لقمة. أما (الطرطور) فهو على العكس من كل ذلك جملة وتفصيلا.
وهذا المصطلحان هما لغة عامية تشرح بدقة "انماطا" إدارية يمكن أن تختار منهما ما يحلو لك, ولكن الأفضل هو ما سوف نصل إليه من وسطية بين ذلك قواما. الأول, وهو (المكوّش) بحيث "يستحوذ" على جميع الصلاحيات صغيرها وكبيرها. وبيده تكون جميع الأمور, بحيث لا تغيب عنه واردة ولا شاردة. تجده يقف بالمرصاد على كل نفس وتنفس. ويقول صارخا لمن يعترض عليه : (هل أنا طرطور), ما هو عملي, أنا المدير العام, أنا رئيس القسم, أنا, أنا? وبالطبع هو يخشى من صورة ذهنية سلبية أن يكون (جداره منخفظا) تقفز الناس من فوقه, وتتجاوزه إلى تحقيق مئاربها وأهواءها, مُنطلقا من نظرية المؤامرة.
المصطلح الثاني, وهو (الطرطور), وهو الذي "يوزع" الصلاحيات جميعها التي يملكها بين مساعديه, "ويتفرغ" هو للقضايا الشخصية من علاقات مع جهات عليا. وهذا ما يجعل المؤسسة من تحت هذا النموذج الإداري مناخ صراع بين القوى المتنافسة ضمن المؤسسة على الاستحواذ على أكبر قدر من الصلاحيات التي بعثرها الطرطور. وهنا تجد الحزبية وتطبيقات اللوبي والشللية. وفي هذا الوسط تجد المؤسسة مكانك سر, بل تجدها سريعا ما تهوى إلى حضيض الإفلاس والنفي من عالم الأعمال.
أما النموذج الثالث فهو من يجمع بين التوزيع للصلاحيات وذلك ليتفرغ هو للرؤية الشمولية, والتخطيط, والتقييم. وبعد توزيع الصلاحيات بحيث يعطي "الحقوق", فإنه في نفس الوقت يحدد "الواجبات", بل "ويحاسب" بدقة, بل وبقسوة, بل وبعنف, من يخطيء في تنفيذ واستغلال صلاحياته. وهذا ما قاله الحبيب المصطفى: (من أين لك هذا)? هذه المحاسبة للمسؤل تكون بعد إعطائه صلاحية محددة.
وبالطبع نحن نرى من الواقع حولنا أن أكثر المدراء ورؤساء الأقسام يفضل أن يكون (مكوّشا), لا أن يكون (طرطورا), تحرزا من هذه الصفة. لذلك ترى الإدارة في أغلب دوائرنا (مكانك سر), لا تطوير ولا إبداع, وذلك لاننشغال القيادة بصغائر الأمور. بل ترى كذلك الكيد الخفي والإحباط في الإنتاجية بسبب عدم الثقة بين الأطراف, وبسبب عدم شحذ الهمم بإعطاء الصلاحيات.
يا أيها (المكوِّش) .هل تظن أنك تكسب كثيرا من خلال "حصرك" لكل الصلاحيات في عُبك وجيبك? هل أنت العقل الوحيد المفكر? هل الجميع من حولك خونة? لماذا لا تسثمر عقول الآخرين بإعطائهم الصلاحيات في التحرك? أعطه الهدف وأجعله يفكر في الوسيلة. (شاورهم وشاركهم في الأمر).
ولكن نسأل كذلك الطرطور, رغم انشغالك بالقضايا العامة والخارجية للمؤسسة التي تديرها, هل تأكدت من صحة المسار, وهل تضمن استمرارية مؤسستك في البقاء لعمر أطول أم أن الشيخوخة سوف تدب في أوصال مؤسستك قبل أوانها, شيخوخة مبكرة? هل نزلت إلى الميدان, وتأكدت من مصداقية التقارير المرفوعة إليك بأنه (كلوا تمام يا فندم)? هل حاسبت بعد أن فوضت? هل عاقبت من أستغل الصلاحيات, وضم لجدار بيته سور الحديقة المجاورة, مثلا?
اذا الخيار, هو واحد من ثلاثة :
(1) أن تكون "قريبا" جدا من الصورة, فلا ترى إلا الجزئيات, التي تُدقق فيها. وهكذا تنقل من جزئية إلى أخرى وتستغرق فيها. وهنا سوف تضيع في التفاصيل وتنهمك في الجزئيات, وتنسى العموم, فتضيع عليك فرصة (ملاحظة وتكوين العلاقات بين الأجزاء), والتي هي من أهم صفات القيادة.
(2) أن تكون "بعيدا" جدا من الصورة فتراها كلها. ولكن في نفس الوقت لا تعرف حقيقة المسار, ثم تفاجأ بطامة كبرى حيث يكثر المستغلون من وراء ظهرك.
(3) أن تجمع بين الطرطرة والتكويش, بحيث توزع الصلاحيات وتراقب من بُعد, وذلك ليكون لديك الفرصة والقدرة أن تلاحظ اى تغير في أي جانب وفي كل الجوانب في وقت واحد. مع ملاحظة التأكد والتحسس من مصداقية التقارير المرفوعة من أصحاب الصلاحيات.
لذلك, فمن يطبق الأسلوب الثالث, تقع عليه أهمية "المتابعة", ذلك أن سيدنا عمر رضي الله عنه, رغم توزيعه للصلاحيات, كان يتعسس في الليل ليتابع مدى دقة تحقيق الأهداف التي رسمها لمن حوله, وقصة المرأة في خلط اللبن معروفة, وكذلك قصة فطام الأطفال> وكيف تأثر رضي الله عنه بذلك الحدث وأخذ يبكي ويقول : (كم قتل عمرا من أبناء المسلمين), ولم يكد يتبين المسلمون قراءته في صلاة الفجر من بكائه في صبيحة تلك الليلة, وأمر أن يكون العطاء من بيت المال لمن يولد في الإسلام. وليس لمن يتم فطامه, حتى لا يتعجل الناس فطام أبنائهم. فنرى هنا نزول القيادة إلى عمق الميدان التطبيقي الدقيق.
وهذا التصرف منه رضى الله عنه هو نموذج للمتابعة, والمحاسبة, وتقصي من يعطيهم الصلاحيات. إذ لا يكفي "التوزيع" للصلاحيات, فاحتمال خيانة الأمانة وارد, بل الخطأ في التنفيذ هو كذلك محتمل, بل يتوجب "المحاسبة" لمن نعطيه الصلاحية, ليس "شكا", بل "تحققا" من مصداقية تحقيق "الوسيلة" التي إتبعها المفوَض, بفتح الواو, "للهدف" المرسوم الذي رسمه له المفوِض, بكسر الواو.
جرب ذلك, أنظر إلى صورة واحدة بطريقتين : أولا جرب أن تنظر وأنت "قريب" جدا من الصورة, إذا أنت الآن (مكوش). ثانيا, جرب أن تنظر إلى نفس الصورة وأنت "بعيد" جدا, إذا أنت الآن (طرطور). ولكن الأجمل هو الأمر الوسط بين ذلك, وبين ذلك قواما, كما جاء في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم - أمة وسطا - من شمول في القيادة من جانب, وتحسس لصغائر الأمور من جانب أخر. ذلك يعني أن تنظر إلى أي معلومة أو حدث بطريقتين: (1) بعيد جدا, (2) قريب جدا.
بل أن هذه الطريقة في التفكير هي إحدى تقنيات البرمجة اللغوية العصبية NLP بإسم تقنية التجزئة : Chunking Strategy والتي تعين على تطوير أسلوب التفكير. تشير هذه التقنية أن الناس ثلاثة أصناف:
(1) التجزئة العليا, وهي النظر إلى الأحداث بعموم وشمول, فإذا أعطيت لأحدث كلمة (طائرة) وطلب منه أن يعطيك كلمة أخرى بالمقابل, فإنه يصعد إلى الأعلى, ويقول لك (حضارة). وهنا صعد الفرد من الجزء إلى الكل بمنظور أعلى وأشمل وجعل الطائرة (جزء من كل) كمعلومة صغيرة ضمن معلومة كبيره هي الحظارة الإنسانية.
(2) التجزئة التفصيلية, وهي النظر إلى الأحداث بتفصيل ودقة, فإذا أعطيت لأحدث كلمة (طائرة) وطلب منه أن يعطيك كلمة أخرى بالمقابل, فإنه ينزل إلى الأسفل يقول لك (جناح). وهنا نزل الفرد من الجزء إلى أجزاء منه بمنظور تفصيلي وجعل الطائرة (كُل يحوي جزئيات) كمعلومة كبيرة تحوي العديد من التفاصيل.
(3) التجزئة الترادفية, وهي النظر إلى الأحداث بتوازي أفقي, فإذا أعطيت لأحدث كلمة (طائرة) وطلب منه أن يعطيك كلمة أخرى بالمقابل, فإنه ينظر أفقيا يقول لك (سيارة). وهنا تحرك الفرد من الجزء إلى جزء أخر مشابه له بمنظور أفقي وجعل الطائرة (جزء مشابه لجزء أخر) كمعلومة توجد مثلها معلومات أخرى مشابهة لها.
الجميل في الأمر والهم أن تخصص البرمجة اللغوية العصبية يعينك - بعد عون الله - على أن تصنع في نفسك هذه المواهب الثلاثة حتى تتعامل مع أي معلومة بمنظور ثلاثي الأبعاد: (فتصعد, وتنزل, وترادف). ولكن في الإدارة توجد هناك ثلاث مسارات :
(1) أن تكون طرطورا, موزعا للصلاحيات, واثقا ثقة عمياء فيمن حولك, وذلك لتنشغل أنت وتتفرغ لقضياك وعلاقاتك المالية الخاصة. وهنا تعم الفوضى لكثرة القباطنة في إدارة السفينة, فكل يسير بحسب وجهة نظره, وذلك لعدم وجود قيادة موحدة عليا تشرف على الجميع, بل كل يوجه السفينة إلى مساره. هنا تضيع الأوقات والميزانيات في مشاريع متذبذبة بل ومتضاربة. فكل يغني على ليلاه. وهذا النوع قد ينطبق عليه منظور التجزئة العليا, ولكنه بتطبيق سلبي.
(2) أن تكون مكوّشا تحشر أنفك في كل صغيرة وكبيرة لأنك العقل الوحيد المفكر , وأنت الوحيد الموثوق فيه, والكل حولك خائن ومُغرض. لذلك فسوف يتمنى الجميع من حولك الخلاص منك, لأنك تضيق عليه أنفاسه, وتشعره بأنه غير موثوق فيه, بل ويشعر غيرك بالإحباط, لأنك أشعرته, بأسلوبك, أنه لا يعرف كيف يفكر, ولا يعرف كيف يتصرف. ولا تجد وقتا تحك فيه شعرك, وتصبح مشغولا عن أهلك وربك وربعك, لأن العمل أخذ كل وقتك, بل ولا يكفي وقتك لجميع أعباءك التي تحملها كلها فوق كتفيك, فتضيع العديد من الأمانات, لأنك لا يمكن أن تشرف على كل صغيرة وكبيرة.
السبب هنا أن المكوش لا يستثمر أكتاف الآخرين, التي قد تكون أقوى من كتفيه. هل يخشى أن يصعدوا عليها, بعد اكتشافهم, إلى منصب أعلى منه? هل نسي الآخرة? كل ذلك في موازين حسناته? وهذا النوع ينطبق عليه منظور التجزئة التفصيلية.
(3) أما المنظور الترادفي فهو لن يحقق التطوير والإبداع بل لا ينفع أن يكون إداريا أو قائدا, لأنه (مكانك سر). هذا النوع يصلح أن يكون تنفيذيا مقلدا.
المهم هنا في هذا المقال أن تكون وسطا (فتصعد, وتنزل, وترادف). بذلك تصعد إلى موقع علوي إشرافي تطل منه على جميع العناصر من تحتك لتلاحظ العلاقات بين العناصر, وتزل في نفس الوقت إلى الميدان لتتحسس مصداقية التطور والتخطيط والتفيذ, وفي نفس الوقت ترادف لتبحث عن بدائل من حولك لتطبيقات مشابهة قد تستفيد منها في مؤسسات مشابهة لك.
وبذلك توزع الصلاحيات لتُبدع, وتُطور, وتُخطط للمستقبل, وتجمع بين احتياجات جميع العناصر التي تشرف عليها, ويحبك من حولك لأنك تثق فيهم, ويتطور الناس من حولك لأنهم أحسوا بالثقة في أنفسهم من خلال ثقة الأخر فيهم, وتنشأ فيهم قدرات جديدة لأنهم أعطوا الفرصة للبحث عن وسائل عديدة للوصول إلى الأهداف المحددة, وبذلك تصنع صفا ثانيا وثالثا من بعدك فلا تنحرف السفينة عن مسارها من بعدك. كما يقول أحدهم : (أنا, وبعدي الطوفان). وتستطيع في نفس الوقت ألا تهمل واجباتك الأخرى : الربانية, والعائلية, والاجتماعية.
بل أن المدير الناجح هو الذي يكون مكتبه فارغا ولا توجد عليه إلا ورقة وقلم لتدوين الملاحظات. وفي العصر الحديث يحمل المدير الناجح الجوال الحاسوبي ليرسل ويستقبل عبر البريد الإلكتروني (التفويض بمنظور علوي, والتدقيق بمنظور تفصيلي, والتقليد بمنظور أفقي).
الخيار بين يديك, من تريد أن تكون? (مكوّشا) يدعو عليك من هم تحك لأنك حشرت أنفك في تفاصيل قد لا تتقنها, أم (طرطورا) يدعو لك كل من هم حولك أنك جعلت الحبل على الغارب? أم (وسطا) بين كل ذلك قواما. فما أجمل الجمع بين الأثنين, صعودا إلى الأعلى (إشرافا), ونزولا إلى الميدان (تحققا) من مصداقية الرؤية العليا ومن صحة المسار. ولا بأس من أن تكون ترادفيا لتبحث عن بدائل قد تكون أفضل من مسارك.
وهكذا تكون أمة وسطا يدعوا لك من هم حولك, ويحبك ربك وربعك, بل ويكون نتيجة كل ذلك من بعدك صدقة جارية صفوفا متلاحقة مثل صلاة الجماعة, في حين أن النموذجان الآخران هما صلاة وصلة فردية.
وهذا ما يفعل معالي مدير جامعة أم القرى الأستاذ الدكتور (الناصر الصالح) - نموذجا ثالثا وسطيا ينتمي إلى الأمة الوسط- في تفقده, شخصيا, للعديد من الجزئيات, فتجد معاليه في ممرات الجامعة يتفقد الفصول والقاعات والمعامل, بل وفي فتح صناديق اللإقتراح والشكاوي, التي لا يطلع عليها إلا هو شخصيا, مع أنك تدخل مكتب معاليه, فتجده شبه فارغ من الأوراق, إلا ما كان شخصيا لا يصح لغيره البت فيه.

ليست هناك تعليقات: