هذا العنوان هو منهج حياة, وأسلوب إدارة, وطريقة في التفكير. ولا تأتي الوسطية والتوازن إلا بعد أن يتم تحقيق الشمولية. إن (هوية) المسلم تعني أنه الذي "يسلم" منه الناس, وتأمل كلمة "الناس" وليس المؤمن أو التقي, بل "الناس", مما يعني مسلمهم وكافرهم. هذه هي الدائرة الأم في وسط بقية الدوار والتروس. ومن خلال هذه الهوية تتحرك (قيمة) عليا هي الرؤية الشمولية لهذا الدين. وهذه هي الدائرة أو الترس الثاني الذي يتحرك بعد تحرك الترس الأول. ومن هذه القيمة تأتي (القدرة) على اتخاذ منهج الوسطية, ترسا ثالثا تحركه القيمة. لذلك, دائرة وترس رابعا, (يسلك) أحدنا تصرف السماحة والبر والقسط. ومن هذه السلوكيات, ترسا رابعا, تنتج وتأتي (بيئة) السلام والحب, بل والحضارة, تأثيرا تصاعديا من الهوية إلى البيئة.
إن الشمولية تعني الإلمام "بجميع" أطراف المعلومة زمانا ومكانا بحجم واقعي, بدون تصعيد أو إقلال لأي عنصر. ومن خلال هذه الرؤية ”الشمولية" للمواقع تنبثق القدرة على التصرف "المتوازن". إن التوازن هو أن تتعامل مع كل ذي حق بما هو أهل له من تعامل يليق به زمانا ومكانا, فتعطي كل ذي حق حقه, عدلا, فلا تظلم طرفا, فتحرمه, على حساب العطاء لطرف أخر. ومن هنا تأتي "الوسطية" في التعامل مع جميع الأطراف التي تم التعرف عليها, كل بما يليق به حجمه زمانا ومكانا.
مثال ذلك محاولة تعليق صورة على جدار. وحتى تعلق الصورة من المنتصف في توازن, لا يميل فيه طرف على طرف أخر, يجب أن ترى الصورة كاملة بكل أطرافها. ومن خلال هذه الرؤية "الشمولية" لجميع الأطراف والزوايا, "تستطيع" أن تجعل نفسك في موقع "المنتصف" من الصورة. ومن "هناك", موقعا متوسطا, يكون "التحرك" الوسطي في تعليق الصورة من المنتصف. وبالعكس فمن ينظر إلى "جانب" الصورة, خاصة في حالة الصورة "الضخمة" جدا, فإنه سوف يقف إلى جانب في الصورة. وهكذا سوف يعلقها على الجدار "مُختلة" التوازن, لأنه وقف بجوار "جانب" منها, ولم يقف في المنتصف, فلم يرى جميع الصورة. إذا التصور والرؤية المختلة التوازن ينبثق منها التصرف والسلوك المختل التوازن, فنميل كل الميل وندرها مُعلقة.
وقد يكون سبب هذا الخلل ظرفا "بيئيا", كأن يقف الشخص على منحدر شديد الميلان. وفي نفس الوقت قد تكون هناك رياح عاصف تهب يمنة ويسرة, مما يجعل وقوف القدم ثابت صعب جدا. ومع هذه الرياح القوية والمنحدر الصعب تهب الرياح الترابية التي تعمي البصر والبصيرة. كيف يتأتي لهذا الشخص أن يرى كامل الصورة, ناهيك أن يحملها بتوازن ليتحقق من موقع المنتصف ليكون وسطيا.
وإن أكبر صورة في حياتنا الإنسانية هي هذا الدين الشامل لكل عموميات وتفاصيل الإنسان. أين تقف من هذا الدين؟ هل هناك بيئة سلبية حولك تؤثر عليك سلبيا؟ هل ابتلاك الله بوالد يصفعك يمنة ويسرة؟ هل هناك مدرس يوبخك, ويصفك دوما بالغباء, ويحرمك حق السؤال والاستفسار؟ هل تعيش في مجتمع طبقي يسحق الضعيف, ولا يقطع يد الغني إذا سرق؟ هل أنت في عائلة لا تتزاوج إلا من كان من نفس الفصيلة ولا يكترث بدين ولا أمانة؟
هل تعتقد أن من كانت هذه بيئته قادرا على رؤية "كامل" الصورة؟ هل من المعقول أن من (لا يرى كامل الصورة) "يستطيع" أن يعرف أين "منتصفها" ليحمل هذه الصورة من المنتصف؟ مستحيل.
لذلك تتغير سلوكيات ثم قدرات الفرد بمجرد أن يغير بيئته, تأثيرا تنازليا من البيئة إلى الهوية. وبعد أن تتغير السلوكيات والقدرات تتغير القيم, تبعا لذلك التأثير التنازلي للبيئة على السلوك ثم نزولا إلى القدرة. ولذلك كانت الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة المنورة خوفا من أثر بيئة مكة المكرمة تحت ظلال الشرك في صناعة السلوك والقدرة والقيم.
لذلك تجد البعض منا لا يرى قيمة لخصلة التوازن والوسطية, ناهيك عن أهمية الرؤية الشمولية. البعض منا يرى نفسه أنه هو الحق وحده, وأن كل من وما سواه باطلا يتوجب استئصاله وإبادته, فلا يترك لغيره على الأرض ديارا.
لذلك تجد أحدنا "يضيق" بفتوى ورأي يحمل الوسطية, فلا يستطيع لذلك صبرا, وكيف يصبر على ما لم يحط به علما, حيث لا تأتي القدرة إلا من خلال القيمة. مادام لم يحط أحدنا علما برؤية شمولية, فهل يصبر هذا الشخص على غيره يسعى إلى تعليق الصورة من المنتصف؟ هذا التوسط سوف يحرم ذلك المسكين من تضخيم حجم الصورة الذي "يُركز" عليه ويراه كل الصورة. لهذا غضب سيدنا موسى, عليه السلام, من تصرف سيدنا الخضر, عليه السلام, حيث لم يرى سيدنا موسى, عليه السلام, ما كان يراه سيدنا الخضر, عليه السلام, من "شمولية" تمتد إلى أفق "أوسع" من رؤية البشر, ذلك مما علمه ربه, وما فعله من عنده.
ومن هنا تأتي أهمية دور كل من وسائل التعليم في مناهج التربية, خاصة في المواد الدينية, إضافة إلى وسائل الإعلام في مفردات برامجها حيث يسعى الطرفان, تربية وإعلاما, إلى غرس شمولية الرؤية لهذا الدين.
تساؤلات عديد تصعد على السطح. هل يتم تقديم وعرض الدين, خاصة في المستوى الجامعي, عبر فتوى لمدرسة واحدة فقهية, أم هو التعليم والعرض الشمولي؟ هل يتم عرض وجهات النظر المتباينة؟ هل يتم السماح للطالب أن يسأل بكل حرية, أم أنه مُطالب بأن ينفذ ويسترجع كل ما أملاه عليه معلمه؟ هل نسعى في الحج أن نفرض مذهبنا على حجاج العالم, فلا نسمح لهم أن يروا إلا ما نرى؟ هل هذا مدعاة للشمول, فكيف تتحقق الوسطية؟ هل نستمع لفتوى ولرأي ديني لم نألف في عاداتنا وتقاليدنا؟
السؤال الحق والأهم هو : هل تسيطر البيئة على الهوية, أم أن العكس هو الأصل الصحيح؟ هل نسلم للإسلام, أم أن الإسلام أسلم لنا؟ لذلك نفهم هذا الدين كما ألفنا, وتعودنا, وتتابعت علينا العادات والتقاليد, بيئة صنعت هويتنا, التي من خلالها تنبثق القيم. ومنها تنبثق القدرات. ثم منها تتشكل السلوكيات. ومن هذه السلوكيات, تصورا وتصرفا تتشكل البيئة. وهكذا نكرر وندعم ما كانت عليه بيئتنا. (ويرجع الكتان زي ما كان).
الأحد، يوليو 06، 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق