أن من أهم الأسباب التي دفعت الإرهابيين إلى ما أقدموا عليه من تصرف شنيع تجاه هذا الوطن وأهله أنهم "يُضخِمون" من حجم الأخطاء التي تحصل في الوطن, والتي لا نُنكر ولا نُخفي, ودليل ذلك توصيات اللقاءات الوطنية للحوار الفكري, التي تنظر بعين حكيمة إلى الأخطاء. هذه الأخطاء, التي لم يخلوا منها مجتمع في أي زمان أو أي مكان, نستطيع أن نقدم العلاج الذي يبني ولا يهدم, ونضيء شمعة بدلا من أن نلعن الظلام. ولكن تجيء هذه الفئة المضللة, كما يقول المثل, (تجعل من الحبة قبة), فتنطلق تصرفاتها من منطلق ما صُعِّد في خارطتها الذهنية من حجم لا أساس له من واقع شرعي, لهم به من الله سلطان.
هذا "التصعِّيد" والتضخيم للأحداث هو الطامة الكبرى في الاتصال والعلاقات الإنسانية. وهذه الخصلة هي السبب في الشعور بالإحباط, على مستوي الاتصال "الذاتي", أولا, حيث يقوم الفرد "بتضخيم" سلبياته وأخطائه, فلا يراها بحجمها الحقيقي. مثال ذلك أن يرسب الطالب في امتحان ما. هنا ينطلق الطالب في فكره الشخصي فيتهم نفسه بالفشل, وأنه لا يفهم, ولا يستحق أن يكون طالبا. وفي نفس الوقت لا ينظر إلى أنه "نجح" في بقية المواد وفي بقية جوانب حياته. وهنا تجد هذا الطالب ينصرف عن التعليم, بل وقد يفشل في بقية أجزاء حياته.
وهذا القول ليس نداء "لتجاهل" الأخطاء الفردية, ولكنه دعوة إلى "تحجيم" القضايا, والنظر إليها بحجمها "الحقيقي" الطبيعي والواقعي, بإعطاء كل ذي حق حقه, بلا زيادة ولا نقصان. هذا التركيز التضخيم للأخطاء الفردية, وعدم رؤية الإيجابيات, يجعل الفرد يصاب بالإحباط. وهنا تكون الطامة حيث قد يتطور الأمر ليصل بالفرد إلى "الانتحار", حيث لا يرى في حياته ما يستحق أن يعيش من أجله.
ونجد نفس الخطر في الجانب الجسدي والطبي حيث يقوم أحدنا "بتصعيد" ما يشعر به من ألم جسدي, فيعطي لهذه الأحاسيس الجسدية معان أكبر من حجمها. والمُشكِل في الأمر أن الجسد "يصدق" هذه الأقوال, كما حدث للمصطفى صلى الله عليه وسلم, حيث زار مريضا ودعا له : (طهورا إنشاء الله), ولكن المريض أجاب :(بل حمى تفور, على شيخ عقور, فتورده القبور). وهذا الذي حصل فعلا, حيث مات المريض. ومن أجل ذلك جاء التحذير النبوي الشريف : (لا تمارضوا, فتمرضوا). إن ردة فعل الجسد منبعها ما يرسمه الفرد في عقله من صورة ذهنية, وليس الواقع.
ويستمر الداء على مستوي الاتصال "الشخصي" بين الأفراد, ثانيا. مثال ذلك أن يتهم الزوج زوجته بإهمال بيت الزوجية, وعدم حبها له, وأنها مفرطة في حقوقه. وكل ذلك لأنها لم لا تهتم بأمور الزينة التي يراه في خارطته الذهنيه مقياسا للحب والجمال يوجد, فقط, في خارطتها الذهنية. وهنا تجد تفسير كثرة الطلاق, والخلافات بين الأطراف على قضايا تافهة لا تستحق أي خلاف, ولكنه "التصعيد وتحميل" التصرفات مالا تحمل.
ومن هنا تجد الفرد منا قد لا يحب مكان عمله, وسر ذلك تصرفات من بعض الأفراد في العمل, ولكننا "نُضخِم" من حجم الأخطاء, و"نُعممها" على بقية الأفراد في العمل. لذلك تجد الفرد يقول : (أن العمل أصبح لا يطاق, لأن الأفراد فيه يضايقونه, ولا يحترمون حقوقه, وأن المدراء لا يهتمون بتحسين العلاقات بين الأفراد. هم فقط يهتمون بإنتاج الفرد, كلهم كذلك). وهكذا نجعل من الحبة قبة. لذلك تجد البعض منا لا يحب عمله, ولا يتقن فيه, ولا يعمل بروح متحمسة. وهذا نوع من الانتحار الصامت.
ويستمر الداء في الشعور بالإحباط على مستوي الاتصال "الجمعي", ثالثا, وعلى مستوى الوطن والمجتمع, حيث لا يرى الفرد في وطنه ومجتمعه إلا السلبيات, بل أنه "يٌصعِد" ويٌضخِم من حجم هذه السلبيات. وهنا كذلك قد يصل الفرد إلى درجة الانتحار. وهذا ما قام به الإنتحاريون من تفجير الذات, هروبا من الواقع الذي لم "يحتملوه" بسبب ما "ضخموا" من أحداث, فلم يطيقوا لها حملا. ولكن بعض شبابنا- في الجانب المقابل - وصل إلى الانتحار الصامت من الجانب الآخر, فتجده يندفع إلى المخدرات هروبا من الواقع كذلك, ولكن بطريقة أخرى.
ويستمر الداء على مستوي الاتصال "المؤسسي", رابعا, بين العشائر والقبائل والمؤسسات, بل الجماعات والأحزاب الدينية, بل وبين الدول والحضارات. وهنا, مثلا, تجد الخلاف "الارهابي" بين مشجعي الأندية كمؤسسات بينها اختلاف. ولكن هذا الخلاف تم "تصعيده" بين مشجعي الأندية, فتحول الاختلاف إلى خلاف. وكذلك الأمر في الاختلاف بين القبائل والأقاليم, فلا تجد التزاوج بين الأقاليم وبين القبائل. بل تجد هذا "التصعيد" ظاهرة سلبية بين الدول والحضارات. ومن هنا تجد أن أسباب الحروب بين الدول منشأه أمور تافهة, ولكنه "التصعيد" لمعاني واحتمالات لا اصل لها في ارض الواقع, منشأها خيال الفرد تلوين وترجمة شخصية لتصرفات الجهة الآخرى.
ولكن "التصعيد" ليس خطأ, بل هو قدرة عقلية وهبها الله لعقل الإنسان, ولكن المشكلة في طريقة الاستعمال لهذه القدرة العقلية بطريق سلبية. أن التصعيد والتضخيم للأحداث الإيجابية منهج إيجابي. مثال ذلك أن يقدم أبنك لك كأس ماء, وهنا تستطيع أن تصفه بأنه كريم, وشهم, وذو خلق حسن. بذلك تزرع فيه العديد من "القيم" والصفات والأخلاق الحميدة, وتُشعره بعزة النفس, التي تستطيع بعد ذلك أن "توظفها" في تكوين العديد من "القدرات", التي تحتاج إلي تلك القيم, التي زرعت بمجرد أنه قام بعمل بسيط. هذا هو التصعيد الإيجابي.
وهذا الأسلوب, في التصعيد الإيجابي, من أهم ما نفتقده في مدارسنا ومناهج التربية والتعليم. لذلك تجد العديد من المعلمين ( يُصعِد السلبية ويُحجِم الإيجابية), ولو أنه فعل العكس لخرج من بين يديه العباقرة والمفكرون والمبدعون. ولكن الذي حدث أن بعض المعلمين كان سببا (لتصعِيده للسلبية & تحجيِمه للإيجابية) في شقاء العديد من أبنائنا وكرهم للتعليم ولبعض المواد على الأقل, وسببا في تحول بعضهم إلى الجريمة والرذيلة.
لذلك فإن بث مهارات الاتصال Communication skills بين شبابنا يطور فيه الحس الشخصي في (تحجيم السلبية & تصعيد الإيجابية). لذلك أحب المصطفي صلى الله عليه وسلم التفاؤل, وكره التشاؤم, رغم أنهما كلاهما "تصعيد" وحمل للأمور أكبر مما تحمل.
بل إنني "أجزم" أن المدخل الذي تم به "تغرير" هؤلاء الشباب هو "التصعيد". ولوا أن هذا الشباب عرف (طرق التصعيد وكيفية الوقوف في وجهها), وهذا ما تناقشه مهارات الاتصال, لما أمكن التلاعب بعقولهم.
ومن أجل ذلك تنبع أهمية تضمين (مهارات الاتصال) في مفردات التعليم بدأ بالتمهيدي, ونهاية بالجامعة. وذلك تحصينا لشبابنا, وصقلا لفكرهم, ولإعطائهم مهارات الاتصال, والتي هي المهارة "الغائبة" عن عقل الإرهابيين, الذين لا يجيدون ألا "التصعيد" للأحداث, فينطلقون في تصرفاتهم بحجم ما صُعِّد في عقولهم, حيث أن الجسد يتصرف كردة فعل للخارطة الذهنية التي نرسمها في العقل, وليس على أساس الواقع والحقيقة.
والله من وراء القصد, والهادي إلى سواء السبيل.
د. أسامة صالح حريري
قسم الإعلام
جامعة أم القرى
Ohariri5d@Yahoo.Com
الأحد، يوليو 06، 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق