إستراتيجية التطوير
إن "التطوير" للإنسان - سواء منه ما كان في مستوى الاتصال الذاتي تنمية للموارد البشرية، أو الشخصي في علاقات الأفراد مع بعضهم البعض الآخر، أو الجماهيري بين فرد ومجموعة، أو المؤسسي بين المجموعات، بكافة أحجام المؤسسة وبأنواع التواصل ضمن المؤسسة، أو بين المؤسسة مع جمهورها الداخلي، أو مع جمهورها الخارجي- يقوم على معرفة "لمراحل" تحرك المعلومة في عقل الإنسان. وبدون معرفة هذه المعلومة الأساسية للتطوير، فإن الفرد الذي يسعى إلى هذا التطوير "يتخبط" في بث رسائله، "فتطيش" محاولاته، وقد يسيء، وهو يظن أنه يُحسن صنعا.
ورغم أن عقل الإنسان "وحدة" واحدة، إلا أنه "مُنقسم" إلى مستويات بعضها فوق بعض، وفي كل مستوى أجزاء، "يغلب" بعضها البعض الأخر، فالبقاء "للأقوى"، وليس "للأصلح". كل من المستويات والأجزاء قد تكون "متناغمة"، وقد تكون "مُتنازعة". ويمكن "تقسيم" عقل الإنسان إلى خمسة مُستويات، فوق بعضها البعض، و"يقود" بعضها إلى البعض الآخر في علاقة منطقية، تصاعدية وتنازلية، سُنة "تُنظم" قاعدة الأسباب والنتائج في (التواصل والتفاعل) مع العقل الإنساني للتأثير على تواصله الذاتي، والشخصي، والجماهيري، والمؤسسي إستراتيجية في التطوير، والتي تعني التحرك المرحلي، العام.
وتشبه هذه العملية الإستراتيجية التسلسلية التنظيمية للمعلومات في العقل الإنساني ما نشاهده في عملية نقل البريد من دولة إلى دولة أخرى، حيث أن لكل مستوي، ضمن الدولة، "مصطلح" خاص، بحيث نضع في كل مستوى معلومات خاصة تختلف عن المعلومات في مستوى أخر. ومن جانب أخر، وهذا هو المهم في التطوير الذاتي والعلاقات الشخصية، إن هذه المستويات، إضافة إلى العنوان أو "المصطلح" الذي تحمله، فإنها تحوي "ضغطا" نفسيا وردة فعل عقلية ونفسية "تزداد" بزياد العمق للمستوى، وبالعكس "تخف" هذه الحرارة والضغط وردة الفعل كلما اقتربنا من السطح. مثلها مثل الغوص في أعماق البحر، فكلما ازددت عمقا، كلما زادت قوة الضغط وردة الفعل. إذا لكل مستوى (مصطلح & ضغط).
من خلال معرفة هذه المستويات، كأنها (تُرُوس) في جهاز ميكانيكي، يمكن تحقيق التطوير، والتعامل، بل والعلاج لكل معضلة في مستواها، ودعما بما قبلها من مستوى، ودعما بما فوقها من مستوى، تخليصا لسلبية، وتحصيلا لإيجابية في حياة الفرد، بل والمؤسسة، حتى الدولة.
هذه المستويات ومصطلحات معلوماتها- تصاعديا من الدائرة الأصغر، ومن العمق، والأهمية، والقوة، إلى السطح إلى الدائرة الأكبر - هي: (1) الهوية:من، (2) القيم:لماذا، (3) القدرات:كيف، (4) السلوك، (5) البيئة:الزمان & المكان.
إذا من خلال إطلاق مصطلح ما، مثل (كيف؟)، فإن مستوى عال من الضغط لا شعوري يصعد في العقل. لذلك تجد العقل "يتفاعل" معك تعاملا مع "القدرات"، لأن مصطلح (كيف؟) يتعامل مع (القدرات). ومن العجيب أن كل من مستوى السلوك والبيئة لا يحويان ردة فعل نفسية أو عقلية عالية، بل قد "تنعدم" ردة الفعل في مستوى البيئة. مما يعني أن نقاش أي معضلة أو تحدى من خلال مصطلح البيئة يعني إمكانية الحوار الهادئ والمنطقي، على عكس الحوار المنطلق من مصطلح الهوية، أو القيم، أو القدرات.
ذلك يعني أن أحدنا يستطيع أن يتحكم ويسيطر على ردة فعله من خلال تحكمه في موضع المعلومة. ما هو مكان الإرسال والاستقبال عندك. هل تستقبل أي معلومة واردة إليك على أن هويتك هي المقصود؟ إذا سوف تستشيط غضبا لكل صغيرة وكبيرة. هل ترسل إي معلومة صادرة منك من منطلق هويتك؟ إذا سوف يكون دوما إرسالك حادا ممتلئا بضغط الهوية. وهذا هو سر الغضب والحمية في الإرسال والاستقبال.
إن التأثير والتطوير "الصحيح"، بل والفعال والمستديم، هو التأثير "التصاعدي" من عمق الهوية، صعودا، مرحليا، متدرجا، إلى البيئة. والعكس كذلك صحيح، بحيث تؤثر البيئة على بقية المستويات نزولا مرحليا متدرجا إلى الهوية. ولكل وقته وظروفه. لذلك تستطيع أن تستثمر قوة وضغط الهوية والقيم والقدرات في تحميس وإثارة ودفع الفرد إيجابيا نحو التحرك الإيجابي إذا تواصلت مع تلك المستويات إيجابيا.
المهم هنا أن تكون "محورية" التحرك والبناء والتشكيل (الإيجابي) في كل كيان، سواء منه الفردي أو المؤسسي، من منطلق (الهوية)، فلكل كيان هوية. إن مصطلح معلومات الهوية هو (من) ومترادفاتها. هذه هي البداية "الحق" لأي تطوير لأي كيان، كأنك ترسم دائرة فتبدأ من مركزها لترسم محيطها بكل دقة وحِرفية، ولكل كيان هوية. هذه الهوية تعني (الصورة الذهنية) التي يحملها الكيان عن نفسه. وفي حالة الفرد فإن الهوية لا تولد معه، بل يتم "صياغتها" (Formatting) من خلال المجتمع المحيط بالفرد، كما يتم تأهيل الحاسب الآلي. لذلك لا يرى أحدنا إلى نفسه على "حقيقتها"، بل كما "أخبره" من حوله عنها. لذلك قد يكون الفرد ذكيا، في نوع من أنواع الذكاء، ولكن كثرة تكرار صفة الغباء سوف تطمس فيه مواهب الذكاء "المختلف" عن الأنواع المحيطة.
ومن طبيعة هذه الهوية "تنبع" وتنبثق (القيم)، ومصطلحها (لماذا)، والتي تبين المقاييس لأهم وأغلى ما يحرك الكيان ليفعل أو لا يفعل، فلكل كيان قيم، مثل قيمة المال والأسرة والإنتاجية، التي تختلف من شخص ومن مؤسسة لأخرى. وفي مستوى القيم يمكن انبثاق الرسالة، سواء منها الفردية أو المؤسسية. ويتم صياغة القيم من خلال عدة عوامل أهما الربط بين الأسباب والنتائج، فما تجعله سببا يؤدي إلى نتيجة فإن ذلك السبب سوف يكون أحد قيمك، مثال ذلك أن تقول : (سمير شخص سعيد جدا، لماذا؟ لأنه غني). أنت بقولك هذا تجعل المال قيمة. وكذلك كل "ربط" بين سبب ونتيجة، كالأكل سببا في الطاقة والنوم ثمان ساعات،،، الخ. وبالطبع كل هذه الروابط منبثقة من الهوية. وكل ذلك هو تفسير (لماذا) تفعل ما تفعل سلبا وإيجابا. ومثال ذلك أن من يرى هويته أنه (طالب علم) فإن هذه الهوية "تصنع" قيمة العلم، وقيمة العلماء، وقيمة الكتاب.
هذه القيم هي التي تصنع (القدرات) ومصطلحها (كيف). والمقصود بالقدرة الملكات والمواهب، سلبية وإيجابية، ترسبت في العقل اللا واعي بعد تكرار إرادي لها بالعقل الواعي. وهذا هو تفسير سهولة أو صعوبة أي موضوع. إن ما يجعل الأمر صعبا أنه لا "يتناسب" مع القيم الشخصية. والعكس كذلك صحيح، حيث أن ما هو سهلا عليك سببه أنه "يتناسب" مع قيمك. إذا القيم منبع القدرات، ولكل كيان قدرات منبثقة من قيمه، التي شكلتها الهوية. ومن هذا المستوى تنبثق الرؤية.
ومثال ذلك أن تكون قيمة العلم أهم عندك من قيمة المال. هنا سوف تجد (طالب العلم) يقدر، بل ويستلذ، بحرمان نفسه من الطعام من أجل شراء كتاب أو حضور دورة علمية. وفي نفس الوقت تجد (طالب العلم) لا يقدر على شراء ملابس باهظة الثمن، لعدم وجود قيمة "الجمال" ضمن لائحة قيمه، أو تكون في مرتبة أقل من قيمة "العلم". والعكس كذلك صحيح فيمن يجعل للجمال قيمة، لأنه يرى نفسه (فنان)، أكثر من حبه للعلم فتجده يقدر بسهولة على شراء اللوحة الجميلة، ولا يقدر على شراء كتب بنفس السعر.
هذه القدرات تؤثر في (السلوك)، ومصطلحها (ماذا)، حيث أنه السلوك نتيجة للقدرات، ولكل كيان سلوك. إذا تِرس ودائرة القدرة تُحرك دائرة وترس السلوك، والذي هو النشاط الإرادي، سواء منه التصور أو التصرف. ونفس الشخص السابق تجده يتصرف بسلوك مع العلماء يختلف عن سلوكه مع الفنانين. والسبب أن قدرته على التعامل مع العلماء نبعت من قيمة العلم، مما جعل السلوك منبثقا من القدرة، في حين أن قيمة الفن لم تكن عالية، فلم تجد لها قدرة تحركها، فلم يسلك معهم سلوك متناسب مع تصرفه مع العلماء. وكل ذلك جاء من هويته أنه (طالب علم)، وليس (فنان).
وينتج عن السلوك والقدرة تكوين (البيئة)، التي هي النتائج والحياة والتي يعيشها الفرد أو المؤسسة، ،زمانا ومكانا، كالحب والشقاء والسعادة والإنتاجية والفقر والغنى والخلافات، ولكل كيان بيئة. مثال ذلك أن تجد بيت (طالب العلم) مليء بالكتب والشهادات العلمية، في حين ترى بيت (الفنان) مليء بالصور الفنية.
والعكس، من كل ما سبق ذكره، صحيح، تنازليا. فكما أن التأثير السابق كان تصاعديا من الهوية إلى البي حيث أن البيئة التي يعيشها الكيان تؤثر في سلوكه وتصرفاته. تجد الطفل، الذي يولد في بيئة الفن، يتصرف سلوكيا بطريقة تختلف عن الطفل، الذي نشأ في بيت علم. هنا تجد الطفل الذي نشأ في بيت العلم يمشي بتؤدة وثبات. أما طفل الفنان فقد يمشي متراقصا متمايلا. لذلك ومع تكرار هذا السلوك يصبح قدرة لا إرادية فيمشي الطفل راقصا دون أن يشعر بذلك أو يفكر. وبالتكرار تصبح لهذه القدرة قيمة في الكيان، فيستطعم ويستلذ بالمشي تمايلا متراقصا. هذه القيمة، بالتكرار، تصبح جزء في هوية الكيان فيصبح ابن الفنان (راقصا) وابن العالم (مفكرا). هذا فقط إذا لم تتداخل عناصر أخرى جانبية "أقوى" من العناصر المحيطة بالفرد. ومن هنا جاء "التنبيه" لأثر البيئة والصديق.
المهم في الموضوع أنه من خلال التحرك "المشترك"، صعودا ونزولا، يتم "تشكيل" الكيان الفردي والمؤسسي. وبالطبع هناك "فرق" في القوة في التحرك التصاعدي والتحرك التنازلي. كذلك هناك "ظروف" تُحتِم التحرُك التصاعدي، وهناك ظروف وحالات يناسبها التحرُك التنازلي. والفرق تحدده "حكمة" المُتحرِّك والظروف.
وإن أهم قضية في هذه الإستراتيجية تتمثل في "صناعة" القدرة، مثل الحب، والوطنية، والولاء، والتي هي نتيجة "تمازج" بين مستوى القيم، دائرة تتحرك من الأسفل في بيان الأسباب من جهة. وبين مستوى السلوك، في بيان الوسائل، دائرة تتحرك من الأعلى من جانب آخر. هذا التحرك "المزدوج" من الأعلى، سلوكا يوضح الوسائل (ماذا)، ومن الأسفل، قيما تُبين الأسباب(لماذا)، تتشكل القدرة.
لذلك تتغير "تدريجيا" سلوكيات، ثم قدرات الفرد بمجرد أن يغير بيئته، تأثيرا تنازليا من البيئة إلى الهوية. وبعد أن تتغير السلوكيات والقدرات تتغير القيم، تبعا لذلك التأثير "التنازلي" للبيئة على السلوك ثم نزولا إلى القدرة. ولذلك كانت الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة المنورة خوفا من أثر "البيئة" المشركة في صناعة السلوك والقدرة والقيم، فكيف بالهوية، أو في أثر البيئة في "تعطيل & تأخير" التغير التصاعدي من الهوية إلى البيئة.
لذلك جاءت نصيحة العالِم، لمن قتل 99 شخصا، أن يغير بيئته التي صنعت سلوكا وقدرة، ولكن بفضل الله لم تصل إلى قيمه وهويته، لذلك تحرك(الذي قتل، ولكنه رغم كل ذلك القتل لم يكن قاتلا) بحثا عن توبة لم يفقه لها العابد، الذي اكتملت به ال100 ضحية جهلا بحقيقة إستراتيجية التطوير. ومثل هذا (العابد) مدراء ومعلمون وأولياء أمور، بل وقادة رأي، نماذج كثيرة في مجتمعنا.
ومن كل ما سبق ذكره يتم بيان أهمية البدء والتركيز على الهوية والقيم في التشكيل لأي كيان. ومن هنا نفهم "الفرق" بين القرآن والدعوة المكية الذي كانت عناصرها كلها عن مواضيع الهوية والقيم. ثم جاء بعد ذلك القدرات والسلوك لصناعة البيئة في المدينة المنورة. ولكل ذلك اختلف نوعية الصحابة عن التابعين، عن الذي جاء بعد ذلك ولم يتربى على الهوية والقيم، عمقا، بل على البيئة والسلوك والقدرة سطحا.
ومن هنا نفهم ما وصلت إليه (ماليزيا) وطنيا في صناعة القدرات والسلوكيات والبيئة المتطورة والمتجانسة بين نقائض عرقية دينية. السبب أن خمسة رؤساء الوزارة، نهاية بالشيخ الدكتور (مهاتير محمد)، جعلوا همهم الأوحد "هوية" الشعب الماليزي. ومن هناك انبثقت "القيم". وهكذا كان "سهلا"، بل وتلقائيا، أن تتحرك بقية التروس والدوائر تصاعديا، بعد أن "تحركت" الدائرة الأم والأعمق. لذلك كان "سهلا"، بل وتلقائيا، على الهوية الماليزية أن "تقدر" على ما لم تقدر عليه غيرها من شعوب مجاورة سبقتها في التحرك والتطوير. ولذلك يتصرف الشعب الماليزي "سلوكيا" بطرق لا يعرفها غيره. ولكل ذلك يعيش الشعب الماليزي في "بيئة" فريدة تتمناها شعوبا عديدة، تملك أضعاف القدرات التي تملكها الأرض الماليزية، لكن كن على ثقة أن القيم، التي حركتها الهوية، هي منبع القدرات.
هذه الهوية تشبه الكلمة طيبة التي تؤتي أكلها كل حين. أما من لا يملك هوية ثابتة صالحه فكأنه شجرة قد أُجتث من الأرض، مالها من قرار. لذلك حاولت العديد من الدول أن تبدأ فورا بشعبها من مرحلة القدرات، ولم تبدأ بالدائرة الأصل، ولم تزرع جذور الثمار التي تتمنى، ناهيك عن حرث التربة المطلوبة. ومن أجل ذلك لا نجد هوية للعديد من الشعوب والمؤسسات رغم أنها تملك من القدرات ما يفوق غيرها. فكيف تتخيل أن تكون هناك قيما، أو قدرات؟ وكيف تتخيل سلوكيات أفرادها وبيئتهم؟ هل تستطيع أن تأتي بشجرة لا تحوي جذورا (هوية)، ولم تضعها في تربتها الحق (قيما) أن تعطيك الثمرة (قدرة) التي تتمنى، مهما مددتها بسلوكيات جميلة، أو بالقدرات المغرية، أو حتى البيئة المناسبة.
وبذلك نفهم حصول الخيانة والنفاق والردة لمن عاش بيئة، فتصرف على أساس سلوكياتها، فأصبحت عنده قدرة. والمشكلة أنه لم يتم الغوص بتربيته إلى القيم والهوية، بل أُكتفي بالسلوك والقدرة. لذلك يحصل الانحراف عن الطريق، والخيانة، وضعف الولاء والوطنية. وكل تلك السلبيات سببها عدم البدء أو الغوص إلى مستوى الهوية التي تصنع البيئة التي نريد، (فكل بيئة هوية لابد أن نبدأها).
لذلك نفهم تغُير سلوكيات من يقود مركبته في بيئة غربية بطريقة راقية تعطي الآخر حقه، في حين أنه عندما يعود إلى بيئته العربية ليقود بشراسة وعصبية في عالم لا يعطيك حقك، بل لا بدأن تنتزعه بالقوة. إذا البيئة تصنع السلوك والقدرة. ولكن في حالة عدم وجود الهوية والقيم، فإن تلك القدرة والسلوك لا تثبت، بل ينتج عنها التحرك من خلالها، فقط، التقلب والتناقض.
لذلك يحصل عدم الثبات على المبدأ مثل الحجاب. السبب أن العباءة كانت مجرد سلوك فرضته البيئة دون أي تثبيت لهذا السلوك بأي قيمة أو هوية. أما المرأة التي نبع سلوك الحجاب من هويتها وقيمها فإن لن "تتناقض" سلوكياتها، مهما تغيرت بيئتها. كذلك كل قدرة أو سلوك، مثل الوطنية والولاء والحب.
ونحن كمسلمين، نتعمق في العقل أكثر من الهوية الشخصية لنبحث عما قبل (الأنا) الإنسانية، للبحث عن (الأنا) في علاقتها بالله عز وجل. لذلك فقبل أن أكون أنا، كإنسان، فأنا خليفة الله في أرضه وعبدا له. ومن هنا، عبر معرفة من أنا، ومن هو سبحانه، عبر معرفة أسمائه وصفاته، سبحانه، أعرف حقيقتي في هذا الكون والحياة، امتداد لأسماء الله وصفاته التي سوف تتمثل فينا. وهكذا أتحرك، إستراتيجيا، تحركا مرحليا، من أعمق محور في الهوية عبدا لله. وتأمل تحرُّك هوية تؤمن بأنها عبد محبوب من رب ودود حليم شكور، يريد منك أن تكون خليفته لتعمر أرضه حبا وسلاما؟
ومن هذه الهوية الحق في لإنسان انطلق عبر بقية المستويات. وبعد البيئة انطلق إلى البيئة الحق. هل البيئة الأرضية هي النهاية؟ طبعا، لا. (اليوم الآخر) هو البيئة الحق التي أنطلق في تعميرها. ومن خلال إيماني باليوم الآخر استمر في سلوكي وقدراتي رغم أن بيئة الأرض لم تشكرني، بل ولم تعلم بالتفاني الذي أقدمه.
لذلك يكون إيماني (بالله) مستوى قبل مستوى الهوية. وبذلك يكون (اليوم الآخر) مستوى بعد مستوى البيئة "إطارا" لمستويات العقلة الخمسة. وتأمل عقلا تحرك قبل هويته من إيمانه بالله مستخلفا عنه سبحانه عمارة للأرض منفعة لخلق الله، حيث أن الخلق "كلهم" عيال الله، وأحبهم إليه سبحانه، أنفعهم لعياله، وهو يأمل أن يفوز بالبيئة الحق، جنة عرضها السموات والأرض، فلا ينتظر جزاء ولا شكورا، ولا يتنكب عن إخلاصه في سلوكه وقدراته، كيف تكون إستراتيجيه في التطوير؟
ذلك هو الجيل الذي اخرج الناس من الظلمات إلى النور "هوية" حق شكَّلت "بيئة" الحب والجمال لبني الإنسان يهوديا ونصرانيا، بل وجنا وحيوانا. ذلك هو جيل الصحابة تجربة فريدة في تاريخ البشير للتشكيل الحق الذي أخرج الخلق من عبادة الإنسان إلى عبادة رب العباد. هذه التجربة تكررت عبر التاريخ لأفراد غيرت مسار التاريخ لتخرج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، نعم، سعة في البيئة "تتسع" على إثرها بقية المستويات تأثيرا "تنازليا"، بل وسعة في الهوية "تتسع" على إثرها بقية المستويات تأثيرا "تصاعديا". فلله، الأول والأخر، الأمرُ من قبل ومن بعد.
ومن خلال "التحرك" الإستراتيجي المرحلي (التصاعدي & التنازلي) يتم التطوير والتغيير الفعال والثابت في الكيان الفردي والمؤسسي بأحجامها صغيرها وكبيرها، حتى إلى مستوى الدولة. ومن خلال معرفة هذه المستويات يمكن "التعامل" مع كل تحدي في مستواه الصحيح، أو مع ما له علاقة به من مستوى سابق ومستوى لاحق. ومن الطبيعي أن يكون التأثير التصاعدي من أعماق الكيان أكثر فاعلية واستمرارا من التأثير التنازلي الذي يحتاج إلى دعم خارجي مستمر. بل إن معرفة هذه المستويات يعين الفرد منا أن يتحكم في ردة فعله بحيث يجعل منطلقه في القضايا الإيجابية من مستوى الهوية أو القيم أو القدرات "تصعيدا" وتفعيلا "للإيجابيات" واستثمرا للضغط "العالي" لتلك المستويات. ولكن في حالة السلبية فلنجعل التحرك من مستوى البيئة والسلوك "تحجيما" وتصغيرا "للسلبيات" واستثمرا للضغط "المنخفض" لتلك المستويات.
ولله الحمد والمنة
د. أسامة صالح حريري
عضو هيئة التدريس بقسم الإعلام، جامعة أم القرى
0505581011
ohariri5d@gmail.com
إن "التطوير" للإنسان - سواء منه ما كان في مستوى الاتصال الذاتي تنمية للموارد البشرية، أو الشخصي في علاقات الأفراد مع بعضهم البعض الآخر، أو الجماهيري بين فرد ومجموعة، أو المؤسسي بين المجموعات، بكافة أحجام المؤسسة وبأنواع التواصل ضمن المؤسسة، أو بين المؤسسة مع جمهورها الداخلي، أو مع جمهورها الخارجي- يقوم على معرفة "لمراحل" تحرك المعلومة في عقل الإنسان. وبدون معرفة هذه المعلومة الأساسية للتطوير، فإن الفرد الذي يسعى إلى هذا التطوير "يتخبط" في بث رسائله، "فتطيش" محاولاته، وقد يسيء، وهو يظن أنه يُحسن صنعا.
ورغم أن عقل الإنسان "وحدة" واحدة، إلا أنه "مُنقسم" إلى مستويات بعضها فوق بعض، وفي كل مستوى أجزاء، "يغلب" بعضها البعض الأخر، فالبقاء "للأقوى"، وليس "للأصلح". كل من المستويات والأجزاء قد تكون "متناغمة"، وقد تكون "مُتنازعة". ويمكن "تقسيم" عقل الإنسان إلى خمسة مُستويات، فوق بعضها البعض، و"يقود" بعضها إلى البعض الآخر في علاقة منطقية، تصاعدية وتنازلية، سُنة "تُنظم" قاعدة الأسباب والنتائج في (التواصل والتفاعل) مع العقل الإنساني للتأثير على تواصله الذاتي، والشخصي، والجماهيري، والمؤسسي إستراتيجية في التطوير، والتي تعني التحرك المرحلي، العام.
وتشبه هذه العملية الإستراتيجية التسلسلية التنظيمية للمعلومات في العقل الإنساني ما نشاهده في عملية نقل البريد من دولة إلى دولة أخرى، حيث أن لكل مستوي، ضمن الدولة، "مصطلح" خاص، بحيث نضع في كل مستوى معلومات خاصة تختلف عن المعلومات في مستوى أخر. ومن جانب أخر، وهذا هو المهم في التطوير الذاتي والعلاقات الشخصية، إن هذه المستويات، إضافة إلى العنوان أو "المصطلح" الذي تحمله، فإنها تحوي "ضغطا" نفسيا وردة فعل عقلية ونفسية "تزداد" بزياد العمق للمستوى، وبالعكس "تخف" هذه الحرارة والضغط وردة الفعل كلما اقتربنا من السطح. مثلها مثل الغوص في أعماق البحر، فكلما ازددت عمقا، كلما زادت قوة الضغط وردة الفعل. إذا لكل مستوى (مصطلح & ضغط).
من خلال معرفة هذه المستويات، كأنها (تُرُوس) في جهاز ميكانيكي، يمكن تحقيق التطوير، والتعامل، بل والعلاج لكل معضلة في مستواها، ودعما بما قبلها من مستوى، ودعما بما فوقها من مستوى، تخليصا لسلبية، وتحصيلا لإيجابية في حياة الفرد، بل والمؤسسة، حتى الدولة.
هذه المستويات ومصطلحات معلوماتها- تصاعديا من الدائرة الأصغر، ومن العمق، والأهمية، والقوة، إلى السطح إلى الدائرة الأكبر - هي: (1) الهوية:من، (2) القيم:لماذا، (3) القدرات:كيف، (4) السلوك، (5) البيئة:الزمان & المكان.
إذا من خلال إطلاق مصطلح ما، مثل (كيف؟)، فإن مستوى عال من الضغط لا شعوري يصعد في العقل. لذلك تجد العقل "يتفاعل" معك تعاملا مع "القدرات"، لأن مصطلح (كيف؟) يتعامل مع (القدرات). ومن العجيب أن كل من مستوى السلوك والبيئة لا يحويان ردة فعل نفسية أو عقلية عالية، بل قد "تنعدم" ردة الفعل في مستوى البيئة. مما يعني أن نقاش أي معضلة أو تحدى من خلال مصطلح البيئة يعني إمكانية الحوار الهادئ والمنطقي، على عكس الحوار المنطلق من مصطلح الهوية، أو القيم، أو القدرات.
ذلك يعني أن أحدنا يستطيع أن يتحكم ويسيطر على ردة فعله من خلال تحكمه في موضع المعلومة. ما هو مكان الإرسال والاستقبال عندك. هل تستقبل أي معلومة واردة إليك على أن هويتك هي المقصود؟ إذا سوف تستشيط غضبا لكل صغيرة وكبيرة. هل ترسل إي معلومة صادرة منك من منطلق هويتك؟ إذا سوف يكون دوما إرسالك حادا ممتلئا بضغط الهوية. وهذا هو سر الغضب والحمية في الإرسال والاستقبال.
إن التأثير والتطوير "الصحيح"، بل والفعال والمستديم، هو التأثير "التصاعدي" من عمق الهوية، صعودا، مرحليا، متدرجا، إلى البيئة. والعكس كذلك صحيح، بحيث تؤثر البيئة على بقية المستويات نزولا مرحليا متدرجا إلى الهوية. ولكل وقته وظروفه. لذلك تستطيع أن تستثمر قوة وضغط الهوية والقيم والقدرات في تحميس وإثارة ودفع الفرد إيجابيا نحو التحرك الإيجابي إذا تواصلت مع تلك المستويات إيجابيا.
المهم هنا أن تكون "محورية" التحرك والبناء والتشكيل (الإيجابي) في كل كيان، سواء منه الفردي أو المؤسسي، من منطلق (الهوية)، فلكل كيان هوية. إن مصطلح معلومات الهوية هو (من) ومترادفاتها. هذه هي البداية "الحق" لأي تطوير لأي كيان، كأنك ترسم دائرة فتبدأ من مركزها لترسم محيطها بكل دقة وحِرفية، ولكل كيان هوية. هذه الهوية تعني (الصورة الذهنية) التي يحملها الكيان عن نفسه. وفي حالة الفرد فإن الهوية لا تولد معه، بل يتم "صياغتها" (Formatting) من خلال المجتمع المحيط بالفرد، كما يتم تأهيل الحاسب الآلي. لذلك لا يرى أحدنا إلى نفسه على "حقيقتها"، بل كما "أخبره" من حوله عنها. لذلك قد يكون الفرد ذكيا، في نوع من أنواع الذكاء، ولكن كثرة تكرار صفة الغباء سوف تطمس فيه مواهب الذكاء "المختلف" عن الأنواع المحيطة.
ومن طبيعة هذه الهوية "تنبع" وتنبثق (القيم)، ومصطلحها (لماذا)، والتي تبين المقاييس لأهم وأغلى ما يحرك الكيان ليفعل أو لا يفعل، فلكل كيان قيم، مثل قيمة المال والأسرة والإنتاجية، التي تختلف من شخص ومن مؤسسة لأخرى. وفي مستوى القيم يمكن انبثاق الرسالة، سواء منها الفردية أو المؤسسية. ويتم صياغة القيم من خلال عدة عوامل أهما الربط بين الأسباب والنتائج، فما تجعله سببا يؤدي إلى نتيجة فإن ذلك السبب سوف يكون أحد قيمك، مثال ذلك أن تقول : (سمير شخص سعيد جدا، لماذا؟ لأنه غني). أنت بقولك هذا تجعل المال قيمة. وكذلك كل "ربط" بين سبب ونتيجة، كالأكل سببا في الطاقة والنوم ثمان ساعات،،، الخ. وبالطبع كل هذه الروابط منبثقة من الهوية. وكل ذلك هو تفسير (لماذا) تفعل ما تفعل سلبا وإيجابا. ومثال ذلك أن من يرى هويته أنه (طالب علم) فإن هذه الهوية "تصنع" قيمة العلم، وقيمة العلماء، وقيمة الكتاب.
هذه القيم هي التي تصنع (القدرات) ومصطلحها (كيف). والمقصود بالقدرة الملكات والمواهب، سلبية وإيجابية، ترسبت في العقل اللا واعي بعد تكرار إرادي لها بالعقل الواعي. وهذا هو تفسير سهولة أو صعوبة أي موضوع. إن ما يجعل الأمر صعبا أنه لا "يتناسب" مع القيم الشخصية. والعكس كذلك صحيح، حيث أن ما هو سهلا عليك سببه أنه "يتناسب" مع قيمك. إذا القيم منبع القدرات، ولكل كيان قدرات منبثقة من قيمه، التي شكلتها الهوية. ومن هذا المستوى تنبثق الرؤية.
ومثال ذلك أن تكون قيمة العلم أهم عندك من قيمة المال. هنا سوف تجد (طالب العلم) يقدر، بل ويستلذ، بحرمان نفسه من الطعام من أجل شراء كتاب أو حضور دورة علمية. وفي نفس الوقت تجد (طالب العلم) لا يقدر على شراء ملابس باهظة الثمن، لعدم وجود قيمة "الجمال" ضمن لائحة قيمه، أو تكون في مرتبة أقل من قيمة "العلم". والعكس كذلك صحيح فيمن يجعل للجمال قيمة، لأنه يرى نفسه (فنان)، أكثر من حبه للعلم فتجده يقدر بسهولة على شراء اللوحة الجميلة، ولا يقدر على شراء كتب بنفس السعر.
هذه القدرات تؤثر في (السلوك)، ومصطلحها (ماذا)، حيث أنه السلوك نتيجة للقدرات، ولكل كيان سلوك. إذا تِرس ودائرة القدرة تُحرك دائرة وترس السلوك، والذي هو النشاط الإرادي، سواء منه التصور أو التصرف. ونفس الشخص السابق تجده يتصرف بسلوك مع العلماء يختلف عن سلوكه مع الفنانين. والسبب أن قدرته على التعامل مع العلماء نبعت من قيمة العلم، مما جعل السلوك منبثقا من القدرة، في حين أن قيمة الفن لم تكن عالية، فلم تجد لها قدرة تحركها، فلم يسلك معهم سلوك متناسب مع تصرفه مع العلماء. وكل ذلك جاء من هويته أنه (طالب علم)، وليس (فنان).
وينتج عن السلوك والقدرة تكوين (البيئة)، التي هي النتائج والحياة والتي يعيشها الفرد أو المؤسسة، ،زمانا ومكانا، كالحب والشقاء والسعادة والإنتاجية والفقر والغنى والخلافات، ولكل كيان بيئة. مثال ذلك أن تجد بيت (طالب العلم) مليء بالكتب والشهادات العلمية، في حين ترى بيت (الفنان) مليء بالصور الفنية.
والعكس، من كل ما سبق ذكره، صحيح، تنازليا. فكما أن التأثير السابق كان تصاعديا من الهوية إلى البي حيث أن البيئة التي يعيشها الكيان تؤثر في سلوكه وتصرفاته. تجد الطفل، الذي يولد في بيئة الفن، يتصرف سلوكيا بطريقة تختلف عن الطفل، الذي نشأ في بيت علم. هنا تجد الطفل الذي نشأ في بيت العلم يمشي بتؤدة وثبات. أما طفل الفنان فقد يمشي متراقصا متمايلا. لذلك ومع تكرار هذا السلوك يصبح قدرة لا إرادية فيمشي الطفل راقصا دون أن يشعر بذلك أو يفكر. وبالتكرار تصبح لهذه القدرة قيمة في الكيان، فيستطعم ويستلذ بالمشي تمايلا متراقصا. هذه القيمة، بالتكرار، تصبح جزء في هوية الكيان فيصبح ابن الفنان (راقصا) وابن العالم (مفكرا). هذا فقط إذا لم تتداخل عناصر أخرى جانبية "أقوى" من العناصر المحيطة بالفرد. ومن هنا جاء "التنبيه" لأثر البيئة والصديق.
المهم في الموضوع أنه من خلال التحرك "المشترك"، صعودا ونزولا، يتم "تشكيل" الكيان الفردي والمؤسسي. وبالطبع هناك "فرق" في القوة في التحرك التصاعدي والتحرك التنازلي. كذلك هناك "ظروف" تُحتِم التحرُك التصاعدي، وهناك ظروف وحالات يناسبها التحرُك التنازلي. والفرق تحدده "حكمة" المُتحرِّك والظروف.
وإن أهم قضية في هذه الإستراتيجية تتمثل في "صناعة" القدرة، مثل الحب، والوطنية، والولاء، والتي هي نتيجة "تمازج" بين مستوى القيم، دائرة تتحرك من الأسفل في بيان الأسباب من جهة. وبين مستوى السلوك، في بيان الوسائل، دائرة تتحرك من الأعلى من جانب آخر. هذا التحرك "المزدوج" من الأعلى، سلوكا يوضح الوسائل (ماذا)، ومن الأسفل، قيما تُبين الأسباب(لماذا)، تتشكل القدرة.
لذلك تتغير "تدريجيا" سلوكيات، ثم قدرات الفرد بمجرد أن يغير بيئته، تأثيرا تنازليا من البيئة إلى الهوية. وبعد أن تتغير السلوكيات والقدرات تتغير القيم، تبعا لذلك التأثير "التنازلي" للبيئة على السلوك ثم نزولا إلى القدرة. ولذلك كانت الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة المنورة خوفا من أثر "البيئة" المشركة في صناعة السلوك والقدرة والقيم، فكيف بالهوية، أو في أثر البيئة في "تعطيل & تأخير" التغير التصاعدي من الهوية إلى البيئة.
لذلك جاءت نصيحة العالِم، لمن قتل 99 شخصا، أن يغير بيئته التي صنعت سلوكا وقدرة، ولكن بفضل الله لم تصل إلى قيمه وهويته، لذلك تحرك(الذي قتل، ولكنه رغم كل ذلك القتل لم يكن قاتلا) بحثا عن توبة لم يفقه لها العابد، الذي اكتملت به ال100 ضحية جهلا بحقيقة إستراتيجية التطوير. ومثل هذا (العابد) مدراء ومعلمون وأولياء أمور، بل وقادة رأي، نماذج كثيرة في مجتمعنا.
ومن كل ما سبق ذكره يتم بيان أهمية البدء والتركيز على الهوية والقيم في التشكيل لأي كيان. ومن هنا نفهم "الفرق" بين القرآن والدعوة المكية الذي كانت عناصرها كلها عن مواضيع الهوية والقيم. ثم جاء بعد ذلك القدرات والسلوك لصناعة البيئة في المدينة المنورة. ولكل ذلك اختلف نوعية الصحابة عن التابعين، عن الذي جاء بعد ذلك ولم يتربى على الهوية والقيم، عمقا، بل على البيئة والسلوك والقدرة سطحا.
ومن هنا نفهم ما وصلت إليه (ماليزيا) وطنيا في صناعة القدرات والسلوكيات والبيئة المتطورة والمتجانسة بين نقائض عرقية دينية. السبب أن خمسة رؤساء الوزارة، نهاية بالشيخ الدكتور (مهاتير محمد)، جعلوا همهم الأوحد "هوية" الشعب الماليزي. ومن هناك انبثقت "القيم". وهكذا كان "سهلا"، بل وتلقائيا، أن تتحرك بقية التروس والدوائر تصاعديا، بعد أن "تحركت" الدائرة الأم والأعمق. لذلك كان "سهلا"، بل وتلقائيا، على الهوية الماليزية أن "تقدر" على ما لم تقدر عليه غيرها من شعوب مجاورة سبقتها في التحرك والتطوير. ولذلك يتصرف الشعب الماليزي "سلوكيا" بطرق لا يعرفها غيره. ولكل ذلك يعيش الشعب الماليزي في "بيئة" فريدة تتمناها شعوبا عديدة، تملك أضعاف القدرات التي تملكها الأرض الماليزية، لكن كن على ثقة أن القيم، التي حركتها الهوية، هي منبع القدرات.
هذه الهوية تشبه الكلمة طيبة التي تؤتي أكلها كل حين. أما من لا يملك هوية ثابتة صالحه فكأنه شجرة قد أُجتث من الأرض، مالها من قرار. لذلك حاولت العديد من الدول أن تبدأ فورا بشعبها من مرحلة القدرات، ولم تبدأ بالدائرة الأصل، ولم تزرع جذور الثمار التي تتمنى، ناهيك عن حرث التربة المطلوبة. ومن أجل ذلك لا نجد هوية للعديد من الشعوب والمؤسسات رغم أنها تملك من القدرات ما يفوق غيرها. فكيف تتخيل أن تكون هناك قيما، أو قدرات؟ وكيف تتخيل سلوكيات أفرادها وبيئتهم؟ هل تستطيع أن تأتي بشجرة لا تحوي جذورا (هوية)، ولم تضعها في تربتها الحق (قيما) أن تعطيك الثمرة (قدرة) التي تتمنى، مهما مددتها بسلوكيات جميلة، أو بالقدرات المغرية، أو حتى البيئة المناسبة.
وبذلك نفهم حصول الخيانة والنفاق والردة لمن عاش بيئة، فتصرف على أساس سلوكياتها، فأصبحت عنده قدرة. والمشكلة أنه لم يتم الغوص بتربيته إلى القيم والهوية، بل أُكتفي بالسلوك والقدرة. لذلك يحصل الانحراف عن الطريق، والخيانة، وضعف الولاء والوطنية. وكل تلك السلبيات سببها عدم البدء أو الغوص إلى مستوى الهوية التي تصنع البيئة التي نريد، (فكل بيئة هوية لابد أن نبدأها).
لذلك نفهم تغُير سلوكيات من يقود مركبته في بيئة غربية بطريقة راقية تعطي الآخر حقه، في حين أنه عندما يعود إلى بيئته العربية ليقود بشراسة وعصبية في عالم لا يعطيك حقك، بل لا بدأن تنتزعه بالقوة. إذا البيئة تصنع السلوك والقدرة. ولكن في حالة عدم وجود الهوية والقيم، فإن تلك القدرة والسلوك لا تثبت، بل ينتج عنها التحرك من خلالها، فقط، التقلب والتناقض.
لذلك يحصل عدم الثبات على المبدأ مثل الحجاب. السبب أن العباءة كانت مجرد سلوك فرضته البيئة دون أي تثبيت لهذا السلوك بأي قيمة أو هوية. أما المرأة التي نبع سلوك الحجاب من هويتها وقيمها فإن لن "تتناقض" سلوكياتها، مهما تغيرت بيئتها. كذلك كل قدرة أو سلوك، مثل الوطنية والولاء والحب.
ونحن كمسلمين، نتعمق في العقل أكثر من الهوية الشخصية لنبحث عما قبل (الأنا) الإنسانية، للبحث عن (الأنا) في علاقتها بالله عز وجل. لذلك فقبل أن أكون أنا، كإنسان، فأنا خليفة الله في أرضه وعبدا له. ومن هنا، عبر معرفة من أنا، ومن هو سبحانه، عبر معرفة أسمائه وصفاته، سبحانه، أعرف حقيقتي في هذا الكون والحياة، امتداد لأسماء الله وصفاته التي سوف تتمثل فينا. وهكذا أتحرك، إستراتيجيا، تحركا مرحليا، من أعمق محور في الهوية عبدا لله. وتأمل تحرُّك هوية تؤمن بأنها عبد محبوب من رب ودود حليم شكور، يريد منك أن تكون خليفته لتعمر أرضه حبا وسلاما؟
ومن هذه الهوية الحق في لإنسان انطلق عبر بقية المستويات. وبعد البيئة انطلق إلى البيئة الحق. هل البيئة الأرضية هي النهاية؟ طبعا، لا. (اليوم الآخر) هو البيئة الحق التي أنطلق في تعميرها. ومن خلال إيماني باليوم الآخر استمر في سلوكي وقدراتي رغم أن بيئة الأرض لم تشكرني، بل ولم تعلم بالتفاني الذي أقدمه.
لذلك يكون إيماني (بالله) مستوى قبل مستوى الهوية. وبذلك يكون (اليوم الآخر) مستوى بعد مستوى البيئة "إطارا" لمستويات العقلة الخمسة. وتأمل عقلا تحرك قبل هويته من إيمانه بالله مستخلفا عنه سبحانه عمارة للأرض منفعة لخلق الله، حيث أن الخلق "كلهم" عيال الله، وأحبهم إليه سبحانه، أنفعهم لعياله، وهو يأمل أن يفوز بالبيئة الحق، جنة عرضها السموات والأرض، فلا ينتظر جزاء ولا شكورا، ولا يتنكب عن إخلاصه في سلوكه وقدراته، كيف تكون إستراتيجيه في التطوير؟
ذلك هو الجيل الذي اخرج الناس من الظلمات إلى النور "هوية" حق شكَّلت "بيئة" الحب والجمال لبني الإنسان يهوديا ونصرانيا، بل وجنا وحيوانا. ذلك هو جيل الصحابة تجربة فريدة في تاريخ البشير للتشكيل الحق الذي أخرج الخلق من عبادة الإنسان إلى عبادة رب العباد. هذه التجربة تكررت عبر التاريخ لأفراد غيرت مسار التاريخ لتخرج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، نعم، سعة في البيئة "تتسع" على إثرها بقية المستويات تأثيرا "تنازليا"، بل وسعة في الهوية "تتسع" على إثرها بقية المستويات تأثيرا "تصاعديا". فلله، الأول والأخر، الأمرُ من قبل ومن بعد.
ومن خلال "التحرك" الإستراتيجي المرحلي (التصاعدي & التنازلي) يتم التطوير والتغيير الفعال والثابت في الكيان الفردي والمؤسسي بأحجامها صغيرها وكبيرها، حتى إلى مستوى الدولة. ومن خلال معرفة هذه المستويات يمكن "التعامل" مع كل تحدي في مستواه الصحيح، أو مع ما له علاقة به من مستوى سابق ومستوى لاحق. ومن الطبيعي أن يكون التأثير التصاعدي من أعماق الكيان أكثر فاعلية واستمرارا من التأثير التنازلي الذي يحتاج إلى دعم خارجي مستمر. بل إن معرفة هذه المستويات يعين الفرد منا أن يتحكم في ردة فعله بحيث يجعل منطلقه في القضايا الإيجابية من مستوى الهوية أو القيم أو القدرات "تصعيدا" وتفعيلا "للإيجابيات" واستثمرا للضغط "العالي" لتلك المستويات. ولكن في حالة السلبية فلنجعل التحرك من مستوى البيئة والسلوك "تحجيما" وتصغيرا "للسلبيات" واستثمرا للضغط "المنخفض" لتلك المستويات.
ولله الحمد والمنة
د. أسامة صالح حريري
عضو هيئة التدريس بقسم الإعلام، جامعة أم القرى
0505581011
ohariri5d@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق